فصل: المشترك عند الأصوليّين وأقسامه

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الموسوعة الفقهية الكويتية ****


إشاعةٌ

التعريف

1 - الإشاعة مصدر أشاع، وأشاع ذكر الشّيء‏:‏ أطاره وأظهره، وشاع الخبر في النّاس شيوعاً أي انتشر وذاع وظهر‏.‏ ولا يخرج استعمال الفقهاء عن هذا المعنى اللّغويّ‏.‏

وقد تطلق الإشاعة على الأخبار الّتي لا يعلم من أذاعها‏.‏ وكثيراً ما يعبّر الفقهاء عن هذا المعنى بألفاظٍ أخرى غير الإشاعة كالاشتهار، والإفشاء، والاستفاضة‏.‏

الحكم الإجمالي

2 - قد تكون الإشاعة حراماً، إذا كانت إظهاراً لما يمسّ أعراض النّاس كإشاعة الفاحشة، لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إنّ الّذين يحبّون أن تشيع الفاحشة في الّذين آمنوا لهم عذابٌ أليمٌ في الدّنيا والآخرة‏}‏‏.‏ هذا هو الحكم الأخرويّ، وبالنّسبة للحكم المترتّب على الإشاعة الكاذبة فهو حدّ القذف إن توفّرت شروطه، وإلاّ فالتّعزير‏.‏ ر‏:‏ ‏(‏قذفٌ، تعزيرٌ‏)‏‏.‏

أمّا المشاع عنه فلا عقوبه عليه بمجرّد الإشاعة، قال القليوبيّ‏:‏ لا يكتفى بالإشاعة - أي شيوع الزّنى - في جواز القذف، لأنّ السّتر مطلوبٌ‏.‏ وقد ورد أنّ في آخر الزّمان «يجلس الشّيطان بين الجماعة، فيتكلّم بالكلمة فيتحدّثون بها، ويقولون‏:‏ لا ندري من قالها»‏.‏ فمثل هذا لا ينبغي أن يسمع فضلاً عن أن يثبت به حكمٌ‏.‏

على أنّ من واجب أولي الأمر قطع دابر الفساد بالطّرق المناسبة‏.‏

3 - وقد تكون الإشاعة طريقاً لثبوت بعض الأحكام، ومن ذلك‏:‏ أيمان القسامة، فإنّها يكتفى لطلبها بالإشاعة، فالإشاعة هنا تعتبر لوثاً‏.‏ ومن ذلك‏:‏ سقوط الحدّ عن الزّوجين إن دخلا بلا شهودٍ وثبت الوطء‏.‏ إن فشا النّكاح، أي شاع واشتهر‏.‏

4 - وإذا كان إظهار الشّيء يترتّب عليه منع الوقوع في الحرام، فإنّ إشاعته تكون مطلوبةً، وذلك كإشاعة الرّضاعة ممّن ترضع، قال ابن عابدين‏:‏ الواجب على النّساء ألاّ يرضعن كلّ صبيٍّ من غير ضرورةٍ، وإذا أرضعن فليحفظن ذلك، وليشهرنه ويكتبنه احتياطاً‏.‏

مواطن البحث

5 - تنظر مواطن الإشاعة في أبواب الرّضاع، والنّكاح، والشّهادة والقسامة، والصّيام ‏(‏في رؤية الهلال‏)‏ والقذف، وأصل الوقف، وثبوت النّسب‏.‏

أشباهٌ

التعريف اللّغويّ

1 - الأشباه جمعٌ مفرده شبهٌ، والشّبه والشّبه‏:‏ المثل، والجمع أشباهٌ، وأشبه الشّيء ماثله، وبينهم أشباهٌ أي أشياء يتشابهون بها‏.‏

التعريف الاصطلاحيّ

أ - عند الفقهاء‏:‏

2 - لا يخرج استعمال الفقهاء للفظ الأشباه عن المعنى اللّغويّ‏.‏

ب - عند الأصوليّين‏:‏

3 - اختلف الأصوليّون في تعريف الشّبه، حتّى قال إمام الحرمين الجوينيّ‏:‏ لا يمكن تحديده، وقال غيره‏:‏ يمكن تحديده‏.‏ فقيل‏:‏ هو الجمع بين الأصل والفرع بوصفٍ يوهم اشتماله على الحكمة المقتضية لحكمٍ من غير تعيينٍ، كقول الشّافعيّ في النّيّة في الوضوء والتّيمّم‏:‏ طهارتان فأنّى تفترقان‏.‏ وقال القاضي أبو بكرٍ‏:‏ هو أن يكون الوصف لا يناسب الحكم بذاته، لكنّه يكون مستلزماً لما يناسبه بذاته‏.‏ وحكى الأبياريّ في ‏"‏ شرح البرهان ‏"‏ عن القاضي أنّه‏:‏ ما يوهم الاشتمال على وصفٍ مخيّلٍ‏.‏ وقيل‏:‏ الشّبه هو الّذي لا يكون مناسباً للحكم ولكن عرف اعتبار جنسه القريب في الجنس القريب‏.‏

وأوضح تعريفٍ له هو ما قاله شارح مسلمٍ الثّبوت‏:‏ الشّبه هو ما ليس بمناسبٍ لتراثه، بل يوهم المناسبة، وذلك التّوهّم إنّما هو بالتفات الشّارع إليه في بعض الأحكام، فيتوهّم فيه المناسبة، كقولك‏:‏ إزالة الخبث طهارةٌ تراد للصّلاة فتعيّن فيها الماء، ولا يجوز مائعٌ آخر، كإزالة الحدث يتعيّن فيها الماء‏.‏

وفي المستصفى‏:‏ قياس الشّبه هو الجمع بين الفرع والأصل بوصفٍ، مع الاعتراف بأنّ ذلك الوصف ليس علّةً للحكم، وذلك كقول أبي حنيفة مسح الرّأس لا يتكرّر تشبيهاً له بمسح الخفّ والتّيمّم، والجامع أنّه مسحٌ، فلا يستحبّ فيه التّكرار قياساً على التّيمّم ومسح الخفّ‏.‏ وفي الرّسالة يقول الشّافعيّ في قياس الشّبه‏:‏ يكون الشّيء له في الأصول أشباهٌ، فذلك يلحق بأولاها به وأكثرها شبهاً فيه، فقد يختلف القايسون في هذا‏.‏

صفته‏:‏ الحكم الإجمالي

أوّلاً‏:‏ عند الفقهاء‏:‏

4 - إذا نيط الحكم بأصلٍ فتعذّر انتقل إلى أقرب شبهٍ له‏.‏ ولذلك اعتبر جمهور الفقهاء الشّبه طريقاً من طرق الحكم في أبوابٍ معيّنةٍ، من ذلك جزاء صيد المحرم، قال اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏ومن قتله منكم متعمّداً فجزاءٌ مثل ما قتل من النّعم يحكم به ذوا عدلٍ منكم‏}‏ أي يحكمان فيه بأشبه الأشياء، ومن ذلك في النّسب ما روي أنّ عائشة رضي الله تعالى عنها قالت‏:‏ «دخل عليّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وهو مسرورٌ تبرق أسارير وجهه فقال‏:‏ أي عائشة‏.‏، ألم تري إلى مجزّزٍ المدلجيّ دخل فرأى أسامة وزيداً وعليهما قطيفةٌ قد غطّيا رءوسهما وبدت أقدامهما، فقال‏:‏ إنّ هذه الأقدام بعضها من بعضٍ»‏.‏

وذلك يدلّ على أنّ إلحاق القافة يفيد النّسب لسرور النّبيّ صلى الله عليه وسلم به، وهو لا يسرّ بباطلٍ‏.‏ وقد أخذ بهذا جمهور الفقهاء خلافاً للحنفيّة‏.‏

5 - ويشترط في القضاء بالشّبه قول أهل الخبرة والمعرفة في الأمر الّذي يكون فيه التّخاصم، كاعتبار مجزّزٍ المدلجيّ من أهل الخبرة في القيافة‏.‏

6 - لكنّ الاعتماد على الشّبه بقول أهل الخبرة يكون فيما لم يرد فيه نصٌّ أو حكمٌ، ولذلك يعتبر اللّعان مانعاً من إعمال الشّبه، وقد «قال النّبيّ صلى الله عليه وسلم في قصّة المتلاعنين‏:‏ إن جاءت به أكحل العينين، سابغ الأليتين، مدلج السّاقين، فهو لشريك ابن سحماء، فجاءت به كذلك، فقال النّبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ لولا ما مضى من كتاب اللّه لكان لي ولها شأنٌ»‏.‏ وهذا بالنّسبة للنّصّ، أمّا بالنّسبة للحكم فقد قال اللّه تعالى في جزاء الصّيد‏:‏ ‏{‏يحكم به ذوا عدلٍ منكم‏}‏ وقد قضى الصّحابة رضوان الله عليهم في بعض الحيوانات، كقول عمر وعثمان وعليٍّ وزيد بن ثابتٍ وابن عبّاسٍ ومعاوية‏:‏ في النّعامة بدنةٌ‏.‏ وما لم يقض فيه الصّحابة فيرجع فيه إلى قول عدلين من أهل الخبرة‏.‏

7 - ويلاحظ أنّ الإمام أبا حنيفة وأصحابه يخالفون الجمهور في الاعتماد على الشّبه في النّسب‏.‏ كما أنّ الشّبه في حزّاء الصّيد هو عند الجمهور من حيث الخلقة، وعند الحنفيّة المثل هو القيمة‏.‏ وتفصيل ذلك يرجع إليه في مواضعه‏.‏

8- كذلك يعتمد على الشّبه في الاختلاف الواقع بين المتداعيين عند المالكيّة‏.‏

جاء في تبصرة الحكّام‏:‏ إن اختلف البائع والمشتري في ثمن السّلعة، فإن ادّعى أحدهما ثمناً يشبه ثمن السّلعة، وادّعى الآخر مالاً يشبه أن يكون ثمناً لها، فإن كانت السّلعة فائتةً ‏(‏أي قد خرجت من يد المدّعى عليه بهلاكٍ أو بيعٍ أو نحوهما‏)‏ فالقول قول مدّعي الأشبه منهما اتّفاقاً ‏(‏أي عند المالكيّة‏)‏، لأنّ الأصل عدم التّغابن، والشّراء بالقيمة وما يقاربها‏.‏ وإن كانت السّلعة قائمةً فالمشهور أنّه لا يراعى الأشبه، لأنّهما قادران على ردّ السّلعة‏.‏ وفي المنثور في القواعد للزّركشيّ في باب الرّبا‏:‏ إذا كان المبيع لا يكال ولا يوزن فيعتبر بأقرب الأشياء شبهاً به على أحد الأوجه‏.‏ والصّلح مع الإقرار يحمل على البيع أو الإجارة أو الهبة‏.‏ والأصل فيه أنّ الصّلح يجب حمله على أقرب العقود إليه وأشبهها به، لتصحيح تصرّف العاقد ما أمكن‏.‏ ر‏:‏ ‏(‏صلحٌ‏)‏‏.‏

ثانياً‏:‏ عند الأصوليّين

9 - اختلف الأصوليّون هل الشّبه حجّةٌ أم لا‏؟‏ فقيل‏:‏ إنّه حجّةٌ وإليه ذهب الأكثرون، وقيل‏:‏ إنّه ليس بحجّةٍ وبه قال أكثر الحنفيّة‏.‏ وقيل غير ذلك‏.‏

وينظر تفصيل ذلك في الملحق الأصوليّ ‏(‏القياس‏)‏‏.‏

المراد بفنّ الأشباه والنّظائر في علم الفقه

10 - المراد بفنّ الأشباه والنّظائر - كما ذكر الحمويّ في تعليقه على أشباه ابن نجيمٍ -‏:‏ المسائل الّتي يشبه بعضها بعضاً مع اختلافها في الحكم لأمورٍ خفيّةٍ أدركها الفقهاء بدقّة أنظارهم‏.‏ وفائدته كما ذكر السّيوطيّ أنّه فنٌّ به يطّلع على حقائق الفقه ومداركه ومأخذه وأسراره، ويتمهّر في فهمه واستحضاره، ويقتدر على الإلحاق والتّخريج، ومعرفة أحكام المسائل الّتي ليست بمسطورةٍ، والحوادث والوقائع الّتي لا تنقضي على مرّ الزّمان‏.‏

وقد كتب عمر بن الخطّاب إلى أبي موسى الأشعريّ‏:‏ اعرف الأمثال والأشباه، ثمّ قس الأمور عندك، فاعمد إلى أحبّها إلى اللّه وأشبهها بالحقّ فيما ترى‏.‏

اشتباهٌ

التعريف

1 - الاشتباه مصدر‏:‏ اشتبه، يقال اشتبه الشّيئان وتشابها‏:‏ أشبه كلّ واحدٍ مهما الآخر‏.‏ والمشتبهات من الأمور‏:‏ المشكلات‏.‏ والشّبهة اسمٌ من الاشتباه وهو الالتباس‏.‏

والاشتباه في الاستعمال الفقهيّ أخصّ منه في اللّغة، فقد عرّف الجرجانيّ الشّبهة بأنّها‏:‏ ما لم يتيقّن كونه حراماً أو حلالاً‏.‏ وقال السّيوطيّ‏:‏ الشّبهة ما جهل تحليله على الحقيقة وتحريمه على الحقيقة‏.‏ ويقول الكمال بن الهمام‏:‏ الشّبهة ما يشبه الثّابت وليس بثابتٍ، ولا بدّ من الظّنّ لتحقّق الاشتباه‏.‏

الألفاظ ذات الصّلة

أ - الالتباس

2 - الالتباس هو‏:‏ الإشكال، والفرق بينه وبين الاشتباه على ما قال الدّسوقيّ‏:‏ أنّ الاشتباه معه دليلٌ ‏(‏يرجّح أحد الاحتمالين‏)‏ والالتباس لا دليل معه‏.‏

ب - الشّبهة‏:‏

3 - يقال‏:‏ اشتبهت الأمور وتشابهت‏:‏ التبست فلم تتميّز ولم تظهر، ومنه اشتبهت القبلة ونحوها، والجمع فيها شبهٌ وشبهاتٌ‏.‏ وقد سبق أنّها ما لم يتعيّن كونه حراماً أو حلالاً نتيجة الاشتباه‏.‏ وللفقهاء في تقسيمها وتسميتها اصطلاحاتٌ، فجعلها الحنفيّة نوعين‏:‏ الأوّل‏:‏ شبهةٌ في الفعل، وتسمّى شبهة اشتباهٍ أو شبهة مشابهةٍ، أي شبهةٌ في حقّ من اشتبه عليه فقط، بأن يظنّ غير الدّليل دليلاً، كما إذا ظنّ جارية امرأته تحلّ له، فمع الظّنّ لا يحدّ، حتّى لو قال‏:‏ علمت أنّها تحرم عليّ حدّ‏.‏

النّوع الثّاني‏:‏ شبهةٌ في المحلّ، وتسمّى شبهةٌ حكميّةٌ أو شبهة ملكٍ، أي شبهةٌ في حكم الشّرع بحلّ المحلّ‏.‏ وهي تمنع وجوب الحدّ، ولو قال علمت أنّها حرامٌ عليّ‏.‏ وتتحقّق بقيام الدّليل النّافي للحرمة في ذاته، لكن لا يكون الدّليل عاملاً لقيام المانع كوطء أمة الابن، لقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «أنت ومالك لأبيك»، ولا يتوقّف هذا النّوع على ظنّ الجاني واعتقاده، إذ الشّبهة بثبوت الدّليل قائمةٌ‏.‏ وجعلها الشّافعيّة ثلاثة أقسامٍ‏:‏

-1 - شبهةٌ في المحلّ، كوطء الزّوجة الحائض أو الصّائمة، لأنّ التّحريم ليس لعينه بل لأمرٍ عارضٍ كالإيذاء وإفساد العبادة‏.‏

- 2 - وشبهةٌ في الفاعل، كمن يجد امرأةً على فراشه فيطؤها، ظانّاً أنّها زوجته‏.‏

- 3 - وشبهةٌ في الجهة، كالوطء في النّكاح بلا وليٍّ أو بلا شهودٍ‏.‏ وتفصيل ذلك في مصطلح شبهةٌ‏.‏ والمقصود هنا بيان أنّ الشّبهة أعمّ من الاشتباه، لأنّها قد تنتج نتيجة الاشتباه، وقد تنتج دون اشتباهٍ‏.‏

ج - التّعارض‏:‏

4 - التّعارض لغةً‏:‏ المنع بالاعتراض عن بلوغ المراد‏.‏ واصطلاحاً‏:‏ تقابل الحجّتين المتساويتين على وجهٍ توجب كلّ واحدةٍ منهما ضدّ ما توجبه الأخرى‏.‏ وسيأتي أنّ التّعارض أحد أسباب الاشتباه‏.‏

د - الشّكّ‏:‏

5 - الشّكّ لغةً‏:‏ خلاف اليقين، وهو التّردّد بين شيئين، سواءٌ استوى طرفاه، أو رجّح أحدهما على الآخر، وقد استعمله الفقهاء كذلك‏.‏ وهو عند الأصوليّين‏:‏ التّردّد بين أمرين بلا ترجيحٍ لأحدهما على الآخر عند الشّاكّ، فالشّكّ سببٌ من أسباب الاشتباه‏.‏

هـ - الظّنّ‏:‏

6 - الظّنّ خلاف اليقين‏.‏ وقد يستعمل بمعنى اليقين، كما في، قوله تعالى‏:‏ ‏{‏الّذين يظنّون أنّهم ملاقو ربّهم‏}‏‏.‏

وفي الاصطلاح‏:‏ هو الاعتقاد الرّاجح مع احتمال النّقيض، وهو طريقٌ لحدوث الاشتباه‏.‏ - و - الوهم‏:‏

7 - الوهم‏:‏ ما سبق القلب إليه مع إرادة غيره‏.‏

وفي الاصطلاح‏:‏ هو إدراك الطّرف المرجوح، أو كما قال عنه ابن نجيمٍ‏:‏ رجحان جهة الخطأ، فهو دون كلٍّ من الظّنّ والشّكّ، وهو لا يرتقي إلى تكوين اشتباهٍ‏.‏

أسباب الاشتباه

8 - قد ينشأ الاشتباه نتيجة خفاء الدّليل بسببٍ من الأسباب، كالإجمال في الألفاظ واحتمالها التّأويل، ودوران الدّليل بين الاستقلال بالحكم وعدمه، ودورانه بين العموم والخصوص، واختلاف الرّواية بالنّسبة للحديث، وكالاشتراك في اللّفظ، أو التّخصيص في عامّه، أو التّقييد في مطلقه، كما ينشأ الاشتباه عند تعارض الأدلّة دون مرجّحٍ‏.‏ كما أنّ النّصوص في دلالتها ليست على وضعٍ واحدٍ، فمنها ما دلالته على الأحكام ظنّيّةٌ، فيجتهد الفقهاء للتّعرّف على ما يدلّ عليه النّصّ، وقد يتشابه الأمر عليهم نتيجة ذلك، إذ من الحقائق الثّابتة اختلاف النّاس في تفكيرهم، وتباين وجهات نظرهم‏.‏

والاشتباه النّاشئ عن خفاءٍ في الدّليل يعذر المجتهد فيه، بعد بذله الجهد واستفراغه الوسع، ويكون فيما انتهى إليه من رأيٍ قد اتّبع الدّليل المرشد إلى تعرّف قصد الشّارع‏.‏

وبيان ذلك فيما يلي‏:‏

أ - اختلاف المخبرين‏:‏

9 - ومن ذلك ما لو أخبره عدلٌ بنجاسة الماء، وأخبره آخر بطهارته‏.‏ فإنّ الأصل عند تعارض الخبرين وتساويهما تساقطهما، وحينئذٍ يعمل بالأصل وهو الطّهارة، إذ الشّيء متى شكّ في حكمه ردّ إلى أصله، لأنّ اليقين لا يزول بالشّكّ، والأصل في الماء الطّهارة‏.‏

ومن هذا القبيل ما لو أخبر عدلٌ بأنّ هذا اللّحم ذبحه مجوسيٌّ، وأخبر عدلٌ آخر أنّه ذكّاه مسلمٌ، فإنّه لا يحلّ لبقاء اللّحم على الحرمة الّتي هي الأصل‏.‏ إذ حلّ الأكل متوقّفٌ على تحقّق الذّكاة الشّرعيّة‏.‏ وبتعارض الخبرين لم يتحقّق الحلّ، فبقيت الذّبيحة على الحرمة‏.‏

ب - الإخبار المقتضي للاشتباه‏:‏

10 - وهو الإخبار الّذي اقترنت به قرائن توقع في الاشتباه‏.‏ مثال ذلك‏:‏ أن يعقد على امرأةٍ، ثمّ تزفّ إليه أخرى بناءً على أنّها زوجته، ويدخل بها على هذا الاعتقاد، ثمّ يتبيّن أنّها ليست المرأة الّتي عقد عليها‏.‏ فإن وطئها فإنّه لا حدّ عليه اتّفاقاً، لأنّه اعتمد دليلاً شرعيّاً في موضع الاشتباه، وهو الإخبار‏.‏ وقد أورد الفقهاء فروعاً كثيرةً مثل هذا الفرع، وهي مبنيّةٌ على هذا الأساس‏.‏

ت - تعارض الأدلّة ظاهراً‏:‏

11 - لا يوجد بين أدلّة الأحكام الشّرعيّة في واقع الأمر تعارضٌ، لأنّها جميعها من عند اللّه تعالى‏.‏ أمّا ما يظهر من التّعارض بين الدّليلين فلعدم العلم بظروفهما وشروط تطبيقهما، أو بما يراد بكلٍّ منهما على سبيل القطع، أو لجهلنا بزمن ورودهما، وغير ذلك ممّا يرتفع به التّعارض‏.‏ فمن الاشتباه بسبب تعارض الأدلّة في الظّاهر ما إذا سرق الوالد من مال ولده، إذ أنّ نصوص العقاب على السّرقة تشمل في عمومها هذه الواقعة‏.‏ فاللّه سبحانه وتعالى يقول‏:‏ ‏{‏والسّارق والسّارقة فاقطعوا أيديهما‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏‏.‏ غير أنّه قد جاء في السّنّة ما يفيد حلّ مال الابن لأبيه‏.‏ فقد روي أنّ الرّسول صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «أنت ومالك لأبيك» وقوله‏:‏ «إنّ أطيب ما أكل الرّجل من كسبه، وإنّ ولده من كسبه» ووجود مثل هذا ينتج اشتباهاً في الحكم يترتّب عليه إسقاط الحدّ، لأنّ من أعظم الشّبهات أخذ الرّجل من مالٍ جعله الشّرع له، وأمره بأخذه وأكله‏.‏ وقال أبو ثورٍ وابن المنذر بإقامة الحدّ‏.‏

وتفصيل ذلك في مصطلح ‏(‏سرقةٌ‏)‏‏.‏

ومن الاشتباه النّاشئ عن تعارض الأدلّة في الظّاهر ما ورد بالنّسبة لطهارة سؤر الحمار، فقد روي عن عبد اللّه بن عبّاسٍ أنّه كان يقول‏:‏‏"‏ الحمار يعتلف القتّ والتّبن فسؤره طاهرٌ وعن جابرٍ «أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم سئل‏:‏ أنتوضّأ بما أفضلت الحمر‏؟‏ قال‏:‏ نعم، وبما أفضلت السّباع كلّها»، وروي عن عبد اللّه بن عمر أنّه كان يقول‏:‏‏"‏ إنّه رجسٌ‏"‏ والتّوقّف في الحكم عند تعارض الأدلّة واجبٌ‏.‏ فلذلك كان مشكوكاً فيه، والمراد بالشّكّ التّوقّف عن إعطاء حكمٍ قاطعٍ، لتعارض الأدلّة‏.‏ قال ابن عابدين‏:‏ الأصحّ أنّ سؤر الحمار مشكوكٌ في طهوريّته ‏(‏أي كونه مطهّراً، لا في طهارته في ذاته‏)‏ وهو قول الجمهور‏.‏ وسببه تعارض الأخبار في لحمه، وقيل‏:‏ اختلاف الصّحابة في سؤره، وقد استوى ما يوجب الطّهارة والنّجاسة فتساقطا للتّعارض، فيصار إلى الأصل، وهو هنا شيئان‏:‏ الطّهارة في الماء، والنّجاسة في اللّعاب، وليس أحدهما أولى من الآخر، فبقي الأمر مشكلاً، نجساً من وجهٍ، طاهراً من وجهٍ‏.‏

ث - اختلاف الفقهاء‏:‏

12 - من ذلك ما قاله الفقهاء من عدم وجوب الحدّ بالوطء في نكاحٍ مختلفٍ فيه، كالنّكاح بلا وليٍّ، فالحنفيّة يجيزونه‏.‏ وسقوط الحدّ بسبب ذلك قول أكثر أهل العلم، لأنّ الاختلاف في إباحة الوطء فيه شبهةٌ، والحدود تدرأ بالشّبهات ويرجع في تفصيل ذلك إلى باب ‏(‏حدّ الزّنى‏)‏‏.‏ ومن ذلك المصلّي بالتّيمّم إذا رأى سراباً، وكان أكبر رأيه أنّه ماءٌ، فإنّه يباح له أن ينصرف، وإن استوى الأمران لا يحلّ له قطع الصّلاة، وإذا فرغ من الصّلاة، إن ظهر أنّه كان ماءً يلزمه الإعادة، وإلاّ فلا‏.‏ نصّ على ذلك الحنفيّة‏.‏ والشّافعيّة والحنابلة على أنّ من تيمّم لفقد الماء فوجده أو توهّمه بطل تيمّمه إن لم يكن في صلاةٍ‏.‏ ويحصل هذا التّوهّم برؤية سرابٍ‏.‏ ومحلّ بطلانه بالتّوهّم إن بقي من الوقت زمنٌ لو سعى فيه إلى ذلك لأمكنه التّطهّر به والصّلاة فيه‏.‏ وإذا بطل التّيمّم بتوهّم وحود الماء فإنّه بطلانه بالظّنّ أو الشّكّ أولى، سواءٌ أتبيّن له خلاف ظنّه أم لم يتبيّن، لأنّ ظنّ وجود الماء مبطلٌ للتّيمّم‏.‏ وعند المالكيّة‏:‏ إن وجد الماء بعد الدّخول في الصّلاة فيجب عليه إتمامها‏.‏ ونصّ الحنابلة على أنّ من خاف على نفسه أو ماله إذا ما طلب الماء ساغ له التّيمّم، ولو كان خوفه بسبب ظنّه فتبيّن عدم السّبب‏.‏ مثل من رأى سواداً باللّيل ظنّه عدوّاً، فتبيّن أنّه ليس بعدوٍّ بعد أن تيمّم وصلّى لم يعد لكثرة البلوى‏.‏ وقيل‏:‏ يلزمه الإعادة، لأنّه تيمّم من غير سببٍ مبيحٍ للتّيمّم‏.‏

ج – الاختلاط‏:‏

13 – يقصد به اختلاط الحلال بالحرام وعسر التّمييز بينهما‏.‏ كما لو اختلطت الأواني الّتي فيها ماءٌ طاهرٌ بالأواني الّتي فيها ماءٌ نجسٌ، واشتبه الأمر، بأن لم يمكن التّمييز بينهما، فإنّه يسقط استعمال الماء، ويجب التّيمّم عند الحنفيّة والحنابلة، وهو قول سحنونٍ من المالكيّة، لأنّ أحدهما نجسٌ يقيناً، والآخر طاهرٌ يقيناً، لكن عجز عن استعماله لعدم علمه فيصار إلى البدل‏.‏ وتفصيل ذلك يرجع فيه إلى مصطلح ‏(‏ماءٌ‏)‏‏.‏

ومن هذا القبيل ما إذا اشتبهت عليه ثيابٌ طاهرةٌ بنجسةٍ، وتعذّر التّمييز بينها، ولم يجد ثوباً طاهراً بيقينٍ، وليس معه ما يطهّرهما به، واحتاج إلى الصّلاة، فالحنفيّة، وهو المشهور عند المالكيّة، ومذهب الشّافعيّة خلافاً للمزنيّ، أنّه يتحرّى بينها، ويصلّي بما غلب على ظنّه طهارته‏.‏ وقال الحنابلة وابن الماجشون من المالكيّة‏:‏ لا يجوز التّحرّي ويصلّي في ثياب منها بعدد النّجس منها، ويزيد صلاةً في ثوبٍ آخر‏.‏ وقال أبو ثورٍ والمزنيّ‏:‏ لا يصلّي في شيءٍ منها كالأواني‏.‏ وإنّما يتحرّى - عند من قال بذلك - إذا لم يجد ثوباً طاهراً، أو ما يطهّر به ما اشتبه عليه من الثّياب‏.‏ وإذا تحرّى فلم يترجّح أحدهما على الآخر صلّى في أحدهما‏.‏ والقائلون بالتّحرّي هنا قالوا‏:‏ لأنّه لا خلف للثّوب في ستر العورة، بخلاف الاشتباه في الأواني، لأنّ التّطهّر بالماء له خلفٌ وهو التّيمّم‏.‏

ح - الشّكّ ‏(‏بالمعنى الأعمّ يشمل أيضاً الظّنّ والوهم‏)‏‏:‏

14 - ومن ذلك ما قالوه فيمن أيقن بالوضوء وشكّ في الحدث من أنّه لا وضوء عليه، إذ اليقين لا يزول بالشّكّ، وهو ما ذهب إليه فقهاء المذاهب، غير أنّه نقل عن مالكٍ أنّه قال‏:‏ من أيقن بالوضوء وشكّ في الحدث ابتدأ الوضوء، وقد روى ابن وهبٍ عن مالكٍ أنّه قال‏:‏ أحبّ إليّ أن يتوضّأ، وهذا يدلّ على أنّ الوضوء عند مالكٍ في ذلك إنّما هو استحبابٌ واحتياطٌ، كما أجمعوا على أنّ من أيقن بالحدث وشكّ في الوضوء أنّ شكّه لا يعتبر وعليه الوضوء، لأنّه المتيقّن‏.‏ والمراد بالشّكّ هنا مطلق التّردّد سواءٌ أكان على السّواء أم كان أحد طرفيه أرجح‏.‏ وعلى هذا فلا فرق بين أن يغلب على ظنّه أحدهما أو يتساوى الأمران عندهما، لأنّ غلبة الظّنّ إذا لم تكن مضبوطةً بضابطٍ شرعيٍّ لا يلتفت إليها، ولأنّه إذا شكّ تعارض عنده الأمران، فيجب سقوطهما كالبيّنتين إذا تعارضتا، ويرجع إلى اليقين

وقالوا‏:‏ من تيقّن الطّهارة والحدث معاً واشتبه عليه الأمر فلم يعلم الأخير منهما والأسبق فيعمل بضدّ ما قبلهما، فإن كان قبل ذلك محدثاً فهو الآن متطهّرٌ، لأنّه تيقّن الطّهارة بعد ذلك الحدث وشكّ في انتقاضها، لأنّه لا يدري هل الحدث الثّاني قبلها أو بعدها‏.‏ وإن كان متطهّراً وكان يعتاد التّجديد فهو الآن محدثٌ، لأنّه متيقّنٌ حدثاً بعد تلك الطّهارة وشكّ في زواله، لأنّه لا يدري هل الطّهارة الثّانية متأخّرةٌ عنه أم لا‏.‏ ومن هذا القبيل ما قالوه في الصّائم لو شكّ في غروب الشّمس، فإنّه لا يصحّ له أن يفطر مع الشّكّ، لأنّ الأصل بقاء النّهار‏.‏ ولو أفطر وهو شاكٌّ ولم يتبيّن الحال بعد ذلك فعليه القضاء اتّفاقاً‏.‏

أمّا إذا شكّ الصّائم في طلوع الفجر فالمستحبّ له ألاّ يأكل لاحتمال أن يكون الفجر قد طلع، فيكون الأكل إفساداً للصّوم فيتحرّز عنه، لما روي أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «الحلال بيّنٌ والحرام بيّنٌ وبينهما أمورٌ مشتبهاتٌ»‏.‏ وقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «دع ما يريبك إلى ما لا يريبك»‏.‏ ولو أكل وهو شاكٌّ فإنّه لا يحكم بوجوب القضاء عليه، لأنّ فساد الصّوم مشكوكٌ فيه، إذ الأصل بقاء اللّيل فلا يثبت النّهار بالشّكّ، وإلى هذا اتّجه فقهاء الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة‏.‏

وقال المالكيّة‏:‏ من أكل شاكّاً في الفجر فعليه القضاء مع الحرمة، وإن كان الأصل بقاء اللّيل، هذا بالنّسبة لصوم الفرض‏.‏ وقيل‏:‏ وفي النّفل أيضاً‏.‏ كما قيل مع الكراهة لا الحرمة‏.‏ ومن أكل معتقداً بقاء اللّيل أو حصول الغروب ثمّ طرأ الشّكّ، فعليه القضاء بلا حرمةٍ‏.‏

د - الجهل‏:‏

15 - ومن ذلك الأسير في دار الحرب، إذا لم يعرف دخول رمضان، وأراد صومه، فتحرّى وصام شهراً عن رمضان فتبيّن أنّه أخطأ‏.‏ فإذا كان صام قبل حلول شهر رمضان فعلاً لم يجزئه، لأنّه أدّى الواجب قبل وجوبه ووجود سببه، وهو مشاهدة الشّهر، ونقل الشّيرازيّ عن الأصحاب من الشّافعيّة قولاً آخر بالإحزاء، لأنّه عبادةٌ تفعل في السّنة مرّةً، فجاز أن يسقط فرضها بالفعل قبل الوقت عند الخطأ، كالوقوف بعرفة إذا أخطأ النّاس ووقفوا قبل يوم عرفة، ثمّ قال‏:‏ والصّحيح أنّه لا يجزئه، لأنّه تيقّن الخطأ فيما يؤمن مثله في القضاء، فلم يعتدّ بما فعله، كما لو تحرّى في وقت الصّلاة فصلّى قبل الوقت‏.‏

وإن تبيّن أنّ الشّهر الّذي صامه كان بعد رمضان صحّ‏.‏

وإذا كان الشّهر الّذي صامه ناقصاً، ورمضان الّذي صامه النّاس تامّاً صام يوماً، إذ لا بدّ من موافقة العدد، لأنّ صوم شهرٍ آخر بعده يكون قضاءً، والقضاء يكون على قدر الفائت‏.‏ وعند الشّافعيّة وجهٌ آخر اختاره أبو حامدٍ الإسفرايينيّ بالإجزاء، لأنّ الشّهر يقع على ما بين الهلالين، ولهذا لو نذر صوم شهرٍ، فصام شهراً نقاصاً بالأهلّة أجزأه‏.‏ ثمّ قال الشّيرازيّ‏:‏ والصّحيح عندي أنّه يجب عليه صوم يومٍ‏.‏

ومن ذلك الاشتباه في القبلة بالنّسبة لمن يجهلها‏.‏ فقد نصّ فقهاء المذاهب على أنّ من اشتبهت عليه جهة القبلة، ولم يكن عالماً بها، سأل من بحضرته ممّن يعلمها من أهل المكان‏.‏ وحدّ الحضرة أن يكون بحيث لو صاح به سمعه‏.‏ فإذا تحرّى بنفسه وصلّى دون سؤالٍ، وتبيّن له بعد ذلك أنّه لم يصب القبلة، أعاد الصّلاة، لعدم إجزاء التّحرّي مع القدرة على الاستخبار، لأنّ التّحرّي دون الاستخبار، إذ الخبر ملزمٌ له ولغيره، بينما التّحرّي ملزمٌ له دون غيره، فلا يصار إلى الأدنى مع إمكان الأعلى، أمّا إذا لم يكن بحضرته أحدٌ يرجع إليه في ذلك، أو كان وسأله ولم يجبه، أو لم يدلّه ثمّ تحرّى، فإنّ صلاته تصحّ، حتّى لو تبيّن له بعد ذلك أنّه أخطأ، لما روي عن عامر بن ربيعة أنّه قال‏:‏ «كنّا مع رسول اللّه صلى الله عليه وسلم في ليلةٍ مظلمةٍ، فلم ندر أين القبلة، فصلّى كلّ رجلٍ منّا على حياله - أي قبالته - فلمّا أصبحنا ذكرنا ذلك لرسول اللّه صلى الله عليه وسلم فنزل قول اللّه سبحانه ‏{‏فأينما تولّوا فثمّ وجه اللّه‏}‏»‏.‏ ولأنّ العمل بالدّليل الظّاهر واجبٌ إقامةً للواجب بقدر الوسع، وإقامةً للظّنّ مقام اليقين لتعذّره‏.‏ ولما روي عن عليٍّ رضي الله عنه أنّ ‏"‏ قبلة المتحرّي جهة قصده إن تحرّى ثمّ قبل الصّلاة أخبره عدلان من أهل الجهة أنّ القبلة إلى جهةٍ أخرى، أخذ بقولهما ولا عبرة بالتّحرّي‏.‏

ذ - النّسيان‏:‏

16 - ومن ذلك المرأة إذا نسيت عادة حيضها، واشتبه عليها الأمر بالنّسبة للحيض والطّهر، بأن لم تعلم عدد أيّام حيضها المعتادة، ولا مكان هذه الأيّام من الشّهر فإنّها تتحرّى، فإن وقع تحرّيها على طهرٍ تعطى حكم الطّاهرات، وإن كان على حيضٍ أعطيت حكمه، لأنّ غلبة الظّنّ من الأدلّة الشّرعيّة‏.‏

وإن تردّدت ولم يغلب على ظنّها شيءٌ فهي المحيّرة، وتسمّى المضلّلة، لا يحكم لها بشيءٍ من الطّهر أو الحيض على التّعيين، بل تأخذ بالأحوط في حقّ الأحكام، لاحتمال كلّ زمانٍ يمرّ عليها من الحيض والطّهر والانقطاع، ولا يمكن جعلها حائضاً دائماً لقيام الإجماع على بطلانه، ولا طاهراً دائماً لقيام الدّم، ولا التّبعيض لأنّه تحكّمٌ، فوجب الأخذ بالأحوط في حقّ الأحكام للضّرورة‏.‏ وتفصيل أحكامها في مصطلح ‏(‏استحاضةٌ‏)‏‏.‏

س - وجود دليلٍ غير قويٍّ على خلاف الأصل‏:‏

17 - ومن ذلك ما قاله فقهاء الحنفيّة وابن شبرمة والثّوريّ وابن أبي ليلى في إثبات الشّفعة بسبب الجواز، أو بسبب الشّركة في مرافق العقار، ووافقهم الشّافعيّة في الصّحيح عندهم بالنّسبة للشّريك في ممرّ الدّار، بأن كان للمشتري طريقٌ آخر إلى الدّار، أو أمكن فتح بابٍ لها إلى شارع‏.‏ وأمّا جمهور الفقهاء فيقصرونها على الشّركة في نفس العقار المبيع فقط، فإذا وقعت الحدود فلا شفعة، لأنّ الشّفعة تثبت على خلاف الأصل، إذ هي انتزاع ملك المشتري بغير رضاءٍ منه، وإجبارٌ له على المعاوضة، ولما روى جابرٌ من قول النّبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ «الشّفعة فيما لم يقسم، فإذا وقعت الحدود وصرفت الطّرق فلا شفعة» وبما روي عن سعيد بن المسيّب أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «إذا قسمت الأرض وحدّت فلا شفعة فيها»‏.‏

ومقتضى الأصل أن لا يثبت حقّ الأخذ بالشّفعة أصلاً، لكنّها ثبتت فيما لا يقسم بالنّصّ الصّريح غير معقول المعنى، فبقي الأمر في المقسوم على الأصل، أو ثبت معلولاً بدفع ضررٍ خاصٍّ وهو ضرر القسمة‏.‏

وما استدلّ به الحنفيّة ومن معهم من أحاديث، فإنّ في أسانيدها مقالاً‏.‏ قال ابن المنذر‏:‏ الثّابت عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم حديث جابرٍ - السّابق ذكره - وما عداه من الأحاديث الّتي استدلّ بها الحنفيّة ومن معهم، كالحديث الّذي رواه أبو رافعٍ «الجار أحقّ بسقبه»، والحديث الّذي رواه سمرة أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «جار الدّار أحقّ بالدّار»‏.‏ فإنّ فيها مقالاً‏.‏ على أنّه يحتمل أنّه أراد بالجار الشّريك، فإنّه جارٌ أيضاً‏.‏ فكلّ هذا أورث شبهةً عند الجمهور، لأنّ ما استدلّ به الحنفيّة غير قويٍّ، وجاء على خلاف الأصل، ولذا لم يثبتوا الشّفعة بسبب الجوار والشّركة في مرافق العقار، وقصروها على الشّركة في العقار نفسه‏.‏ وبناءً على هذا الاشتباه‏:‏ لو قضى قاضٍ بها لا يفسخ قضاؤه‏.‏ ومن الاشتباه النّاجم عن وجود دليلٍ غير قويٍّ على خلاف الأصل‏:‏ ما قاله الحنفيّة من أنّ دلالة العامّ الّذي لم يخصّص قطعيّه، فيدلّ على جميع الأفراد الّتي يصدق عليها معناه‏.‏ فإذا دخله التّخصيص كانت دلالته ظنّيّةً‏.‏ بينما يرى جمهور الأصوليّين أنّ دلالة العامّ في جميع أحواله ظنّيّةٌ، إذ الأصل أنّه ما من عامٍّ إلاّ وخصّص‏.‏ وما دام العامّ لا يكاد يخلو من مخصّصٍ، فإن هذا يورث شبهةً قويّةً تمنع القول بقطعيّته في إفادة الشّمول والاستغراق، ويترتّب على هذا الخلاف أنّ الحنفيّة يمنعون تحصيص عامّ الكتاب والسّنّة المتواترة ابتداءً بالدّليل الظّنّيّ، خلافاً للجمهور‏.‏

وعلى هذا فقد ذهب الحنفيّة إلى تحريم أكل ذبيحة المسلم، إذا تعمّد ترك التّسمية عليها، لعموم قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا تأكلوا ممّا لم يذكر اسم اللّه عليه‏}‏ ولم يخصّصوا هذا العموم بحديث‏:‏ «ذبيحة المسلم حلالٌ، ذكر اسم اللّه أو لم يذكره»، لأنّه خبر آحادٍ، وقد وافقهم المالكيّة والحنابلة في تحريم ذبيحة المسلم إذا ترك التّسمية عمداً، بينما الشّافعيّة يجيزون أكلها، لأنّ دلالة العامّ عندهم ظنّيّةٌ، فيجوز تحصيصه بما هو ظنّيٌّ، وإن كرهوا تعمّد التّرك‏.‏ وتفصيل ذلك في ‏(‏تذكيةٌ، وتسميةٌ‏)‏‏.‏

ومن هذا القبيل أيضاً‏:‏ اختلاف الفقهاء في سرقة ما قيمته نصابٌ من الماء المحرّز، فالأصل في الماء المحرّز أنّه مالٌ متقوّمٌ، وأنّه ملكٌ لمن أحرزه، ولا شركة فيه ولا شبهة الشّركة، وقد ورد النّهي عن «بيع الماء إلاّ ما حمل»‏.‏ ولهذا قال جمهور الفقهاء بوجوب القطع، يقول ابن رشدٍ‏:‏ اختلف الفقهاء في الأشياء الّتي أصلها مباحٌ، هل يجب في سرقتها القطع‏؟‏ فذهب الجمهور إلى أنّ القطع في كلّ متموّلٍ يجوز بيعه وأخذ العوض فيه، وعمدتهم عموم الآية الموجبة للقطع، يقول اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏والسّارق والسّارقة فاقطعوا أيديهما‏}‏ وعموم الآثار الواردة في اشتراط النّصاب، ومنها ما ثبت عن السّيّدة عائشة رضي الله عنها أنّ الرّسول صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «لا تقطع يد السّارق إلاّ في ربع دينارٍ فصاعداً»‏.‏ ويقول الدّسوقيّ‏:‏ ويجب القطع وإن كان المسروق محقّراً كماءٍ وحطبٍ، لأنّه متموّلٌ ما دام محرّزاً، ولو كان مباح الأصل‏.‏ وهذا مذهب الشّافعيّة، والقول المشهور عن أبي يوسف‏.‏ لكنّ أبا حنيفة ومحمّد بن الحسن، والحنابلة يرون عدم القطع، لأنّه لا يتموّل عادةً، ولأنّ الإباحة الأصليّة تورث شبهةً بعد الإحراز، ولأنّ التّافه لا يحرّز عادةً، أو لا يحرّز إحراز الخطير، وينتهون إلى أنّ الاعتماد على معنى التّفاهة دون إباحة الأصل، وإن كان منهم من يرى أنّ السّبب شبهة الشّركة‏.‏

ش - الإبهام مع عدم إمكان البيان‏:‏

18 - ومن ذلك ما إذا طلّق الرّجل إحدى زوجتيه، دون تعيين واحدةٍ منهما، ثمّ مات قبل البيان، فيحدث الاشتباه بسبب ذلك فيمن وقع عليها الطّلاق‏.‏ فالحنفيّة يفصّلون في هذه المسألة أحكام المهر المسمّى، وحكم الميراث، وحكم العدّة‏.‏ فأمّا حكم المهر فإن كانتا مدخولاً بهما فلكلّ واحدةٍ منهما جميع المهر، لأنّ كلّ واحدةٍ منهما تستحقّ جميع المهر، منكوحةً كانت أو مطلّقةً‏.‏ وإن كانتا غير مدخولٍ بهما فلهما مهرٌ ونصف مهرٍ بينهما، لكلّ واحدةٍ‏.‏ منهما ثلاثة أرباع المهر، لأنّ كلّ واحدةٍ منهما يحتمل أن تكون زوجةً متوفّى عنها، ويحتمل أن تكون مطلّقةً‏.‏ فإن كانت زوجةً متوفّى عنها تستحقّ جميع المهر، لأنّ الموت بمنزلة الدّخول، وإن كانت مطلّقةً تستحقّ النّصف فقط، لأنّ النّصف سقط بالطّلاق قبل الدّخول، فلكلّ واحدةٍ منهما كلّ المهر في حالٍ، والنّصف في حالٍ، وليست إحداهما بأولى من الأخرى، فيتنصّف، فيكون لكلّ واحدةٍ ثلاثة أرباع مهرٍ‏.‏

وأمّا حكم الميراث، فهو أنّهما يرثان منه ميراث امرأةٍ واحدةٍ، ويكون بينهما نصفين في الأحوال كلّها، لأنّ إحداهما منكوحةٌ بيقينٍ، وليست إحداهما بأولى من الأخرى، فيكون قدر ميراث امرأةٍ واحدةٍ بينهما بالسّويّة‏.‏ وأمّا حكم العدّة، فعلى كلّ واحدةٍ منهما عدّة الوفاة وعدّة الطّلاق، أيّهما أطول، لأنّ إحداهما منكوحةٌ والأخرى مطلّقةٌ، وعلى المنكوحة عدّة الوفاة، وعلى المطلّقة عدّة الطّلاق، فدارت كلّ واحدةٍ من العدّتين في حقّ كلّ واحدةٍ من المرأتين بين الوجوب وعدم الوجوب، والعدّة يحتاط في إيجابها، ومن الاحتياط القول بوجوبها على كلّ واحدةٍ منهما‏.‏ والمالكيّة يوافقون الحنفيّة في حكم الميراث والصّداق‏.‏ ولم نقف على نصٍّ لهم بالنّسبة للعدّة‏.‏ ولهم في الصّداق تفصيلٌ يرجع إليه في مصطلح ‏(‏صداقٌ‏)‏‏.‏ أمّا الشّافعيّة فإنّهم بالنّسبة للميراث يرون أنّه يوقف للزّوجتين من ماله نصيب زوجةٍ إلى أن يصطلحا، لأنّه قد ثبت إرث إحداهما بيقينٍ، وليست إحداهما بأولى من الأخرى، فإن قال وارث الزّوج‏:‏ أنا أعرف الزّوجة منهما ففيه قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ يرجع إليه، لأنّه لمّا قام مقامه في استلحاق النّسب قام مقامه في تعيين الزّوجة‏.‏ والثّاني‏:‏ لا يرجع إليه، لأنّ كلّ واحدةٍ منهما زوجةٌ في الظّاهر، وفي الرّجوع إلى بيانه إسقاط وارثٍ مشاركٍ، والوارث لا يملك إسقاط من يشاركه في الميراث‏.‏ وقيل‏:‏ إنّه في صورة ما إذا طلّق إحدى زوجتيه دون تعيينٍ لا يرجع إلى الوارث قولاً واحداً، لأنّه اختيار شهوةٍ‏.‏ وبالنّسبة للعدّة فإنّهم قالوا‏:‏ إن لم يدخل بهما اعتدّت كلّ واحدةٍ منهما أربعة أشهرٍ وعشراً، لأنّ كلّ واحدةٍ منهما يجوز أن تكون هي الزّوجة، فوجبت العدّة عليهما ليسقط الفرض بيقينٍ‏.‏ وإن دخل بهما، فإن كانتا حاملين اعتدّتا بوضع الحمل، لأنّ عدّة الطّلاق والوفاة في الحمل واحدةٌ‏.‏ وإن كانتا من ذوات الشّهور اعتدّتا بأربعة أشهرٍ وعشرٍ، لأنّها تجمع عدّة الطّلاق والوفاة، وإن كانتا من ذوات الأقراء اعتدّتا بأقصى الأجلين‏.‏

وأمّا المهر فلم نجد نصّاً في المسألة‏.‏

وأمّا الحنابلة فقد نصّوا على أنّ من طلّق واحدةً من نسائه، ومات قبل البيان، أخرجت بالقرعة، فمن تقع عليها القرعة فلا ميراث لها‏.‏ وقد روي ذلك عن عليٍّ رضي الله عنه، وهو قول أبي ثورٍ، لأنّه إزالة ملكٍ عن الآدميّ فتستعمل فيه القرعة عند الاشتباه، كالعتق‏.‏ ولأنّ الحقوق تساوت على وجهٍ تعذّر تعيّن المستحقّ فيه من غير قرعةٍ، فينبغي أن تستعمل فيه القرعة، كالقسمة بين النّساء في السّفر‏.‏ فأمّا قسمة الميراث بين الجميع ففيه إعطاء من لا تستحقّ وإنقاض المستحقّ، وفي وقف قسمة الميراث إلى غير غايةٍ تضييعٌ لحقوقهنّ، وحرمان الجميع منع الحقّ عن صاحبه يقيناً‏.‏

ومن ذلك ما قالوه في ميراث الغرقي والهدمى والحرقى، لأنّ من شروط الإرث تحقّق حياة الوارث وقت وفاة المورّث‏.‏ وبالنّسبة للغرقى والهدمى والحرقى الّذين بينهم توارثٌ ماتوا معاً أو متعاقبين، ولم يعلم أيّهم أسبق موتاً، فإنّ ذلك يترتّب عليه اشتباهٌ عند التّوريث، إذ لا يدرى أيّهم أسبق موتاً، ولذا فإنّ جمهور الفقهاء قالوا‏:‏ يمتنع التّوارث بينهم، وإنّما توزّع تركة كلٍّ منهم على ورثته الأحياء دون اعتبارٍ لمن مات معه، إذ لا توارث بالشّكّ، وهو المعتمد، لاحتمال موتهم معاً أو متعاقبين، فوقع الشّكّ في الاستحقاق، واستحقاق الأحياء متيقّنٌ، والشّكّ لا يعارض اليقين‏.‏ وتفصيله في ‏(‏إرثٌ‏)‏‏.‏

طرق إزالة الاشتباه

19 - من اشتبه عليه أمرٌ ما فإنّ إزالة الاشتباه تكون عن طريق التّحرّي، أو الأخذ بالقرائن، أو استصحاب الحال، أو الأخذ بالاحتياط، أو بإجراء القرعة ونحوها‏.‏

وفيما يلي بيان ما تقدّم‏.‏

أ - التّحرّي‏:‏

20 - وهو عبارةٌ عن طلب الشّيء بغالب الرّأي عند تعذّر الوقوف على حقيقته، وقد جعل التّحرّي حجّةً حال الاشتباه وفقد الأدلّة، لضرورة العجز عن الوصول إلى المتحرّى عنه‏.‏ وحكمه وقوع العمل صواباً في الشّرع‏.‏ فمن اشتبهت عليه القبلة مثلاً، ولم يجد سبيلاً لمعرفتها تحرّى‏.‏ لما روي عن عامر بن ربيعة أنّه قال‏:‏ «كنّا مع رسول اللّه صلى الله عليه وسلم في ليلةٍ مظلمةٍ، فلم ندر أين القبلة، فصلّى كلّ رجلٍ منّا على حياله، فلمّا أصبحنا ذكرنا ذلك لرسول اللّه صلى الله عليه وسلم فنزل قول اللّه سبحانه‏:‏ ‏{‏فأينما تولّوا فثمّ وجه اللّه‏}‏»‏.‏ وقال عليٌّ رضي الله عنه‏:‏ قبلة المتحرّي جهة قصده، ولأنّ العمل بالدّليل الظّاهر واجبٌ وإقامةٌ للواجب بقدر الوسع‏.‏ والفروض إصابة عين الكعبة أو جهتها بالاجتهاد والتّحرّي، على تفصيلٍ واختلافٍ بيانه في مصطلح ‏(‏استقبالٌ‏)‏‏.‏

ب - الأخذ بالقرائن‏:‏

21 - القرينة‏:‏ هي الأمارة الّتي ترجّح أحد الجوانب عند الاشتباه‏.‏ جاء في فواتح الرّحموت‏:‏ أنّ القرينة ما يترجّح به المرجوح‏.‏ وقد تكون القرينة قطعيّةً، وقد عرّفت مجلّة الأحكام العدليّة القرينة القاطعة بأنّها‏:‏ الأمارة البالغة حدّ اليقين‏.‏ ولا خلاف في أصل اعتبار القرينة على ما هو مبيّنٌ في مصطلح ‏(‏إثباتٌ‏)‏ ‏(‏ف 31‏)‏‏.‏

ومن هذا القبيل حكم رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وخلفائه من بعده بالقيافة ‏(‏اتّباع الأثر وتعرّف الشّبه‏)‏ وجعلها دليلاً يثبت به النّسب عند الاشتباه‏.‏

وإذا تداعى رجلان شيئاً، وقدّم كلٌّ منهما بيّنة قبوله، وتساويا في العدالة، واشتبه الأمر على القاضي، فإن كان المدّعى به في يد أحدهما كان ذلك قرينةً ترجّح جانبه‏.‏ وهذا معنى قولهم‏:‏ تقدّم بيّنة الدّاخل على بيّنة الخارج عند التّكافؤ على ما هو المشهور‏.‏

ج - استصحاب الحال‏:‏

22 - المراد به استبقاء حكمٍ ثبت في الزّمن الماضي على ما كان، واعتباره موجوداً مستمرّاً إلى أن يوجد دليلٌ يغيّره‏.‏ وقد عرّفوه بأنّه استدلالٌ بالمتحقّق في الماضي على الوقوع في الحال‏.‏ وقال الشّوكانيّ‏:‏ المراد استصحاب الحال لأمرٍ وجوديٍّ أو عدميٍّ، عقليٍّ أو شرعيٍّ‏.‏ فمن علم أنّه متوضّئٌ، ثمّ شكّ في طروء الحدث، فإنّه يحكم بطهارته وبقاء وضوئه ما لم يثبت خلاف ذلك، لأنّ الطّهارة الثّابتة بيقينٍ لا يحكم بزوالها بالشّكّ‏.‏

وتفصيل الكلام في حجّيّة الاستصحاب والتّرجيح به عند الاشتباه وانعدام الدّليل سبق بيانه في مصطلح ‏(‏استصحابٌ‏)‏‏.‏

د - الأخذ بالاحتياط‏:‏

23 - جاء في اللّغة‏:‏ الاحتياط طلب الأحظّ والأخذ بأوثق الوجوه‏.‏ ومنه قولهم‏:‏ افعل الأحوط‏.‏ وقد نصّ الفقهاء على أنّه عند الاشتباه مثلاً، فيما إذا وجد الزّوجان في فراشهما المشترك منيّاً، ولم يذكر كلٌّ منهما مصدره، وقال الزّوج‏:‏ إنّه من المرأة ولعلّها احتلمت، وقالت الزّوجة‏:‏ إنّه من الرّجل ولعلّه احتلم، فالأصحّ أنّه يجب الغسل عليهما احتياطاً‏.‏ كما نصّوا في باب العدّة على أنّ المرأة المعقود عليها، واختلى بها زوجها ثمّ فارقها، فإنّها تعتدّ احتياطاً، وإن لم يدخل بها، لأنّ الخلوة مثار الشّبهة، وهذا للمحافظة على الأعراض والأنساب‏.‏

هـ – الانتظار لمضيّ المدّة‏:‏

24- وهذا يكون فيما له مدّةٌ محدّدةٌ، كدخول شهر رمضان، فإنّ اللّه سبحانه يقول‏:‏ ‏{‏فمن شهد منكم الشّهر فليصمه‏}‏‏.‏

فإن اشتبه الأمر وغمّ الهلال وجب إكمال شعبان ثلاثين يوماً، لخبر «صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته، فإن غمّ عليكم فأكملوا عدّة شعبان ثلاثين يوماً»‏.‏

و - إجراء القرعة‏:‏

25 - يقول القرافيّ‏:‏ متى تعيّنت المصلحة أو الحقّ في جهةٍ فلا يجوز الإقراع، لأنّ في القرعة ضياع ذلك الحقّ المعيّن والمصلحة المتعيّنة، ومتى تساوت الحقوق والمصالح، واشتبه في المستحقّ فهذا هو موضع القرعة عند التّنازع، منعاً للضّغائن‏.‏ وتفصيلة في ‏(‏إثباتٌ‏)‏ ‏(‏ف‏)‏ وفي ‏(‏قرعةٌ‏)‏‏.‏

الأثر المترتّب على الاشتباه

26 - درء الحدّ‏:‏ من أظهر ما يترتّب على الاشتباه من آثارٍ‏:‏ درء الحدّ عن الجاني‏.‏ فقد روت السّيّدة عائشة رضي الله عنها أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «ادرءوا الحدود عن المسلمين ما استطعتم»‏.‏ وروي عن ابن مسعودٍ ادرءوا الحدود بالشّبهات‏.‏ إلخ‏.‏ وعن عمر بن الخطّاب رضي الله عنه أنّه قال‏:‏ لأن أعطّل الحدود بالشّبهات أحبّ إليّ من أن أقيمها بالشّبهات‏.‏ ويقول الكاسانيّ‏:‏ إنّ الحدّ عقوبةٌ متكاملةٌ فيستدعي جنايةً متكاملةً، فإذا كانت هناك شبهةٌ كانت الجناية غير متكاملةٍ‏.‏

27 - وممّا يترتّب على الاشتباه من آثارٍ عمليّةٍ عند اشتباه المصلّي‏:‏ وجوب سجود السّهو جبراً، لترك الواجب الأصليّ في الصّلاة أو تغييره، أو تغيير فرضٍ منها عن محلّه الأصليّ ساهياً، فيجب جبره بالسّجود‏.‏

فقد روى أبو سعيدٍ الخدريّ قال‏:‏ قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم‏:‏ «إذا شكّ أحدكم في صلاته فلم يدر كم صلّى ثلاثاً أم أربعاً‏؟‏ فليطرح الشّكّ، وليبن على ما استيقن، ثمّ يسجد سجدتين قبل أن يسلّم‏.‏ فإن كان صلّى خمساً شفعن له صلاته وإن كان صلّى إتماماً لأربعٍ كانتا ترغيماً للشّيطان»‏.‏ ولأنّ الأصل عدم الإتيان بما شكّ فيه، فلزمه الإتيان به‏.‏ كما لو شكّ هل صلّى أو لا‏.‏ وتفصيل ذلك في ‏(‏سجود السّهو‏)‏‏.‏

28 - وممّا يترتّب على اشتباه القاضي فيما ينبغي أن يحكم به في الدّعوى الّتي ينظرها‏:‏ مشاورة الفقهاء للاستئناس برأيهم، وذلك ندباً عند جمهور الفقهاء، ووجوباً في قولٍ عند المالكيّة، وقد كان عثمان رضي الله عنه إذا جلس أحضر أربعةً من الصّحابة ثمّ استثارهم، فإن رأوا ما راه أمضاه‏.‏ يقول ابن قدامة‏:‏ إذا نزل بالقاضي الأمر المشكل عليه مثله شاور فيه أهل العلم والأمانة‏.‏ ثمّ قال‏:‏ لأنّه قد ينتبه بالمشاورة، ويذكر ما نسيه بالمذاكرة‏.‏ والمشاورة هنا لاستخراج الأدلّة، ويعرف القاضي الحقّ بالاجتهاد، ولا يجوز أن يقلّد غيره ما دام مجتهداً‏.‏ ومن أجل تيسير أمر المشورة على القاضي، فإنّه يستحبّ أن يحضر مجلس الماضي أهل العلم من كلّ مذهبٍ، حتّى إذا حدثت حادثةٌ يفتقر إلى أن يسألهم عنها، سألهم ليذكروا أدلّتهم فيها وجوابهم فيها‏.‏

29 - كما قد يترتّب على الاشتباه وقف قسمة التّركة، أو الاحتفاظ بقدرٍ منها، كما إذا كان ضمن الورثة حملٌ عند وفاة المورّث، ولا يدرى أذكرٌ هو أم أنثى، حتّى يعلم نصيبه، أو أصل استحقاقه في الإرث، وكذلك بالنّسبة للمفقود والأسير، فإنّه يجعل حيّاً بالنّسبة لماله حتّى يقوم الدّليل على وفاته، ويجعل ميّتاً في مال غيره، لكن يوقف له نصيبه كما يوقف نصيب الحمل حتّى يتبيّن حاله أو يقضي باعتباره ميّتاً‏.‏ وتفصيل كلّ ذلك وبيانه في مصطلح‏:‏ ‏(‏إرثٌ‏)‏‏.‏

اشتراطٌ

التعريف

1 - الاشتراط لغةً‏:‏ مصدرٌ للفعل اشترط، واشترط معناه‏:‏ شرط‏.‏ تقول العرب‏:‏ شرط عليه كذا أي ألزمه به، فالاشتراط يرجع معناه إلى معنى الشّرط‏.‏

والشّرط ‏(‏بسكون الرّاء‏)‏ له عدّة معانٍ، منها‏:‏ إلزام الشّيء والتزامه‏.‏ قال في القاموس‏:‏ الشّرط إلزام الشّيء والتزامه في البيع ونحوه، كالشّريطة، ويجمع على شرائط وشروطٍ‏.‏ والشّرط ‏(‏بفتح الرّاء‏)‏ معناه العلامة، ويجمع على أشراطٍ‏.‏ والّذي يعني به الفقهاء هو الشّرط ‏(‏بسكون الرّاء‏)‏ وهو إلزام الشّيء والتزامه‏.‏ فإن اشترط الموكّل على الوكيل شرطاً فلا بدّ للوكيل أن يتقيّد به‏.‏ وكذلك سائر الشّروط الصّحيحة الّتي تكون بين المتعاقدين، فلا بدّ من التزامها وعدم الخروج عنها‏.‏

أمّا الاشتراط في الاصطلاح، فقد عرّف الأصوليّون الشّرط بأنّه‏:‏ ما يلزم من عدمه العدم، ولا يلزم من وجوده وجودٌ ولا عدمٌ لذاته، ولا يشتمل على شيءٍ من المناسبة في ذاته بل في غيره‏.‏ والشّرط بهذا المعنى يخالف المانع، إذ يلزم من وجوده العدم‏.‏ ويخالف السّبب، إذ يلزم من وجوده الوجود، ومن عدمه العدم‏.‏ ويخالف جزء العلّة، لأنّه يشتمل على شيءٍ من المناسبة، لأنّ جزء المناسب مناسبٌ‏.‏

2 - والشّرط عند الأصوليّين قد يكون عقليّاً، أو شرعيّاً، أو عاديّاً، أو لغويّاً، باعتبار الرّابط بين الشّرط ومشروطه، إن كان سببه العقل، أو الشّرع، أو العادة، أو اللّغة‏.‏ وهناك أقسامٌ أخرى للشّرط يذكرها الأصوليّون في كتبهم‏.‏

وللتّفصيل ينظر الملحق الأصوليّ‏.‏

3 - أمّا الشّرط عند الفقهاء فهو نوعان‏:‏ أحدهما‏:‏ الشّرط الحقيقيّ ‏(‏الشّرعيّ‏)‏‏.‏

وثانيها‏:‏ الشّرط الجعليّ‏.‏ وفيما يلي معنى كلٍّ منهما‏:‏

أ - الشّرط الحقيقيّ‏:‏

4 - الشّرط الحقيقيّ هو ما يتوقّف عليه وجود الشّيء بحكم الشّرع، كالوضوء بالنّسبة للصّلاة، فإنّ الصّلاة لا توجد بلا وضوءٍ، لأنّ الوضوء شرطٌ لصحّتها‏.‏ وأمّا الوضوء فإنّه يوجد، فلا يترتّب على وجوده وجود الصّلاة، ولكن يترتّب على انتفائه انتفاء صحّة الصّلاة‏.‏

ب - الشّرط الجعليّ‏:‏

5 - الشّرط الجعليّ نوعان‏:‏

أحدهما‏:‏ الشّرط التّعليقيّ، وهو ما يترتّب عليه الحكم ولا يتوقّف عليه، كالطّلاق المعلّق على دخول الدّار، كما إذا قال لها‏:‏ إن دخلت الدّار فأنت طالقٌ، فإنّ الطّلاق مرتّبٌ على دخولها الدّار، فلا يلزم من انتفاء الدّخول انتفاء الطّلاق، بل قد يقع الطّلاق بسببٍ آخر‏.‏ وثانيها‏:‏ الشّرط المقيّد، ومعناه التزام أمرٍ لم يوجد في أمرٍ وجد بصيغةٍ مخصوصةٍ‏.‏ والاشتراط عند الفقهاء هو فعل المشترط، بأن يعلّق أحد تصرّفاته، أو يقيّدها بالشّرط، فمعنى الاشتراط لا يتحقّق إلاّ في الشّرط الجعليّ‏.‏ وسيأتي التّفصيل في مصطلح‏:‏ ‏(‏شرطٌ‏)‏‏.‏

الألفاظ ذات الصّلة

التّعليق‏:‏

6 - فرّق الزّركشيّ في قواعده بين الاشتراط والتّعليق، بأنّ التّعليق ما دخل على أصل الفعل بأداته، كإن وإذا، والشّرط ما جزم فيه بالأصل، وشرط فيه أمرٌ آخر‏.‏ وقال الحمويّ في حاشيته على ابن نجيمٍ في الفرق بينهما‏:‏ إنّ التّعليق ترتيب أمرٍ لم يوجد على أمرٍ يوجد، بإن أو إحدى أخواتها، والشّرط التزام أمرٍ لم يوجد في أمرٍ وجد بصيغةٍ مخصوصةٍ‏.‏

الاشتراط الجعليّ وأثره على التّصرّفات

7 - الاشتراط الجعليّ قد يكون تعليقيّاً، وقد يكون تقييديّاً، فالاشتراط التّعليقيّ‏.‏ هو عبارةٌ عن معنًى يعتبره المكلّف، ويعلّق عليه تصرّفاً من تصرّفاته، كالطّلاق، والبيع وغيرهما‏.‏ وقد سبق أنّ التّعليق هو عبارةٌ عن ترتيب أمرٍ لم يوجد على أمرٍ يوجد، بإن أو إحدى أخواتها‏.‏ فالاشتراط التّعليقيّ هو فعل المشترط، كأن يعلّق أحد تصرّفاته على الشّرط‏.‏

هذا، ولصحّة التّعليق شروطٌ يذكرها الفقهاء في كتبهم‏.‏

منها‏:‏ أن يكون المعلّق عليه معلوماً يمكن الوقوف عليه، ولهذا لو علّق الطّلاق بمشيئه اللّه تعالى لا يقع عند الحنفيّة والشّافعيّة، لأنّ مشيئة اللّه سبحانه وتعالى لا يمكن الوقوف عليها‏.‏ ومنها‏:‏ أن يكون المعلّق عليه أمراً مستقبلاً، بخلاف الماضي، فإنّه لا مدخل للتّعليق فيه، فهو تنجيزٌ حقيقةً، وإن كان تعليقاً في الصّورة‏.‏

ومنها‏:‏ ألاّ يفصل بين الشّرط وجوابه بما يعتبر فاصلاً في العادة، فإن فعل ذلك لم يصحّ التّعليق‏.‏ وللاشتراط التّعليقيّ أثره على التّصرّفات إذا اشترطه المشترط، فإنّ من التّصرّفات ما يقبل التّعليق، ومنها ما لا يقبله‏.‏

التّصرّفات الّتي لا تقبل التّعليق

8 - منها‏:‏ البيع، وهو من التّمليكات، لا يقبل الاشتراط التّعليقيّ عند الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة والحنابلة، لأنّ البيع فيه انتقالٌ للملك من طرفٍ إلى طرفٍ، وانتقال الأملاك إنّما يعتمد الرّضا، والرّضا يعتمد الجزم، ولا جزم مع التّعليق‏.‏

ومنها‏:‏ النّكاح، فإنّه لا يصحّ تعليقه على أمرٍ في المستقبل عند الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة والحنابلة‏.‏ وتفصيل ذلك في باب النّكاح‏.‏

التّصرّفات الّتي تقبل الاشتراط التّعليقيّ

9 - منها‏:‏ الكفالة، فإنّها تقبل الاشتراط التّعليقيّ عند الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة والشّافعيّة على الوجه الأصحّ‏.‏ وتفصيل ذلك يأتي في موضعه‏.‏

هذا، وبالنّظر إلى ما قاله العلماء في التّصرّفات على اختلاف أنواعها من التّمليكات والمعاوضات والالتزامات والإطلاقات والإسقاطات والتّبرّعات والولايات، فإنّنا نجدهم متّفقين على أنّ بعض هذه التّصرّفات لا يقبل الاشتراط التّعليقيّ مطلقاً، كالتّمليكات، والمعاوضات، والأيمان باللّه تعالى، والإقرار‏.‏ وبعضها يقبل الاشتراط التّعليقيّ مطلقاً، كالولايات والالتزام ببعض الطّاعات، كالنّذر مثلاً والإطلاقات‏.‏ وبعضها فيه الخلاف من حيث قبوله الاشتراط التّعليقيّ أو عدم قبوله له، كالإسقاطات وبعض عقود التّبرّعات وغيرها‏.‏

وسيأتي تفصيل ذلك كلّه في مصطلح‏:‏ ‏(‏شرطٌ‏)‏‏.‏

الاشتراط التّقييديّ وأثره

10 - سبق أنّ الاشتراط التّقييديّ عند الفقهاء معناه‏:‏ التزام أمرٍ لم يوجد في أمرٍ وجد بصيغةٍ مخصوصةٍ‏.‏ أو أنّه‏:‏ ما جزم فيه بالأصل وشرط فيه أمرٌ آخر‏.‏ فالشّرط بهذين المعنيين يتحقّق فيه معنى الاشتراط، لأنّ التزام أمرٍ لم يوجد في أمرٍ وجد، أو اشتراط أمرٍ آخر بعد الجزم بالأصل هو الاشتراط‏.‏ ولهذا الشّرط أثره على التّصرّفات إذا اشترط فيها من حيث الصّحّة والفساد أو البطلان‏.‏ وبيان ذلك أنّ التّصرّف إذا قيّد بشرطٍ فلا يخلو هذا الشّرط إمّا أن يكون صحيحاً أو فاسداً أو باطلاً‏.‏

فإن كان الشّرط صحيحاً، كما لو اشترط في البقرة كونها حلوباً فالبيع جائزٌ، لأنّ المشروط صفةٌ للمبيع أو الثّمن، وهي صفةٌ محضةٌ لا يتصوّر انقلابها أصلاً، ولا يكون لها حصّةٌ من الثّمن بحالٍ‏.‏ وإن كان الشّرط باطلاً أو فاسداً، كما لو اشترى ناقةً على أن تضع حملها بعد شهرين، كان البيع فاسداً‏.‏ وكما لو قال‏:‏ بعتك داري على أن تزوّجني ابنتك، أو على أن أزوّجك ابنتي لم يصحّ، لاشتراطه عقداً آخر، ولشبهه بنكاح الشّغار‏.‏ وإنّ الحنفيّة الّذين يفرّقون بين الفاسد والباطل يذكرون له ثلاثة أقسامٍ‏:‏ صحيحٌ، وفاسدٌ، وباطلٌ‏.‏ والمالكيّة والشّافعيّة والحنابلة الّذين لا يفرّقون بين الفاسد والباطل، ويقولون بأنّهما واحدٌ، يذكرون له قسمين‏:‏ صحيحٌ، وفاسدٌ أو باطلٌ‏.‏ كما أنّ الفقهاء يذكرون للشّرط الصّحيح أنواعاً وللشّرط الفاسد أنواعاً، وإنّ من الشّروط الفاسدة ما يفسد التّصرّف ويبطله، ومنها ما يبقى التّصرّف معه صحيحاً‏.‏ وسيأتي تفصيل ذلك إن شاء اللّه في مصطلح ‏(‏شرطٌ‏)‏‏.‏

ضوابط الاشتراط التّقييديّ عند الفقهاء

11 - الاشتراط التّقييديّ قسمان‏:‏ صحيحٌ، وفاسدٌ أو باطلٌ‏.‏

القسم الأوّل‏:‏ الاشتراط الصّحيح‏:‏

12 - الاشتراط الصّحيح ضابطه عند الحنفيّة‏:‏ أنّه اشتراط صفةٍ قائمةٍ بمحلّ العقد وقت صدوره، أو اشتراط ما يقتضيه العقد أو ما يلائم مقتضاه، أو اشتراط ما ورد في الشّرع دليلٌ بجواز اشتراطه، أو اشتراط ما جرى عليه التّعامل بين النّاس‏.‏ وضابطه عند المالكيّة‏:‏ أنّه اشتراط صفةٍ قائمةٍ بمحلّ العقد وقت صدوره، أو اشتراط ما يقتضيه العقد، أو اشتراط ما لا يقتضيه العقد ولا ينافيه‏.‏ وضابطه عند الشّافعيّة‏:‏ أنّه اشتراط صفةٍ قائمةٍ بمحلّ العقد وقت صدوره، أو اشتراط ما يقتضيه العقد، أو اشتراط ما يحقّق مصلحةً مشروعةً للعاقدين، أو اشتراط العتق لتشوّف الشّارع إليه‏.‏ وضابطه عند الحنابلة‏:‏ أنّه اشتراط صفةٍ قائمةٍ بمحلّ العقد وقت صدوره، أو اشتراط ما يقتضيه العقد أو يؤكّد مقتضاه، أو اشتراط ما أجاز الشّارع اشتراطه، أو اشتراط ما يحقّق مصلحةً للعاقدين‏.‏

القسم الثّاني‏:‏ الاشتراط الفاسد أو الباطل‏:‏

وهذا النّوع ضربان‏:‏ أحدهما‏:‏ ما يفسد التّصرّف ويبطله،

وثانيهما‏:‏ ما يبقى التّصرّف معه صحيحاً‏.‏ وهاك ضابط كلٍّ منهما‏.‏

الضّرب الأوّل‏:‏ ما يفسد التّصرّف ويبطله‏:‏

13 - ضابطه عند الحنفيّة‏:‏ اشتراط أمرٍ يؤدّي إلى غدرٍ غير يسيرٍ، أو اشتراط أمرٍ محظورٍ، أو اشتراط ما لا يقتضيه العقد، وفيه منفعةٌ لأحد المتعاقدين أو لغيرهما، أو للمعقود عليه ‏(‏إذا كان هذان الأخيران من أهل الاستحقاق‏)‏، أو اشتراط ما لا يلائم مقتضى العقد، ولا ممّا جرى عليه التّعامل بين النّاس، ولا ممّا ورد في الشّرع دليلٌ بجوازه‏.‏ وضابطه عند المالكيّة‏:‏ اشتراط أمرٍ محظورٍ، أو أمرٍ يؤدّي إلى غدرٍ، أو اشتراط ما ينافي مقتضى العقد‏.‏ وضابطه عند الشّافعيّة‏:‏ اشتراط أمرٍ لم يرد في الشّرع، أو اشتراط أمرٍ يخالف مقتضى العقد، أو اشتراط أمرٍ يؤدّي إلى جهالةٍ‏.‏ وضابطه عند الحنابلة‏:‏ اشتراط عقدين في عقدٍ، أو اشتراط شرطين في عقدٍ واحدٍ، أو اشتراط ما يخالف المقصود من العقد‏.‏

الضّرب الثّاني‏:‏ ما يبطل ويبقى التّصرّف معه صحيحاً‏:‏

14 - وضابطه عند الحنفيّة‏:‏ كلّ ما لا يقتضيه العقد ولا يلائم مقتضاه، ولم يرد في الشّرع أو العرف دليلٌ بجوازه، وليس فيه منفعةٌ لأحد المتعاقدين، أو للمعقود عليه إذا كان من أهل الاستحقاق‏.‏ فإذا اقترن بالعقد كان العقد صحيحاً والشّرط باطلاً‏.‏

وضابطه عند المالكيّة‏:‏ اشتراط البراءة من العيوب، أو اشتراط الولاء لغير المعتق، أو اشتراط ما يخالف مقتضى العقد دون الإخلال بمقصوده‏.‏

وضابطه عند الشّافعيّة‏:‏ اشتراط ما لا غرض فيه، أو ما يخالف مقتضى العقد دون الإخلال بمقصوده‏.‏ وضابطه عند الحنابلة‏:‏ اشتراط ما ينافي مقتضى العقد، أو اشتراط أمرٍ يؤدّي إلى جهالةٍ، أو أمرٍ غير مشروعٍ‏.‏ هذا، وقد ذكر المالكيّة أنّ من الشّروط الفاسدة شروطاً تسقط إذا أسقطها المشترط‏.‏ وضابطها عندهم‏:‏ اشتراط أمرٍ يناقض المقصود من البيع، أو يخلّ بالثّمن فيه، أو يؤدّي إلى غدرٍ في الهبة‏.‏

اشتراكٌ

التعريف

1 - يطلق الاشتراك في اللّغة على الالتباس، يقال‏:‏ اشترك الأمر‏:‏ التبس، ويأتي الاشتراك بمعنى التّشارك‏.‏ ورجلٌ مشتركٌ‏:‏ إذا كان يحدّث نفسه كالمهموم، أي أنّ رأيه مشتركٌ ليس بواحدٍ، ولفظٌ مشتركٌ له أكثر من معنًى‏.‏

ويطلق الاشتراك في عرف العلماء، كأهل العربيّة والأصول والميزان ‏(‏المنطق‏)‏ على معنيين‏:‏ أحدهما‏:‏ الاشتراك المعنويّ‏.‏ وهو كون اللّفظ المفرد موضوعاً لمفهومٍ عامٍّ مشتركٍ بين الأفراد، وذلك اللّفظ يسمّى مشتركاً معنويّاً‏.‏

ثانيهما‏:‏ الاشتراك اللّفظيّ‏.‏ وهو كون اللّفظ المفرد موضوعاً لمعنيين معاً على سبيل البدل من غير ترجيحٍ، وذلك اللّفظ يسمّى مشتركاً لفظيّاً‏.‏ أمّا الاشتراك عند الفقهاء‏:‏ فلا يخرج عن معناه في اللّغة بمعنى التّشارك‏.‏

الألفاظ ذات الصّلة

الخلطة‏:‏

2 - الخلطة هي الشّركة، وهي نوعان‏:‏ خلطة أعيانٍ، وهي ما إذا كان الاشتراك في الأعيان‏.‏ وخلطة أوصافٍ‏:‏ وهي أن يكون مال كلّ واحدٍ من الخليطين متميّزاً فخلطاه، واشتركا في عددٍ من الأوصاف، كالمراح ‏(‏المأوى‏)‏ والمرعى والمشرب والمحلب والفحل والرّاعي‏.‏ وللخلطة أثرٌ عند بعض الفقهاء في اكتمال نصاب الأنعام واحتساب الزّكاة‏.‏ وتفصيله في ‏(‏زكاةٌ‏)‏‏.‏

المشترك عند الأصوليّين وأقسامه

3 - المشترك ما كان اللّفظ فيه موضوعاً حقيقةً في معنيين أو أكثر، وينقسم المشترك عند الأصوليّين إلى قسمين‏:‏ معنويٍّ ولفظيٍّ‏.‏

الأوّل‏:‏ المشترك المعنويّ‏.‏ وهو اللّفظ المفرد الموضوع لمفهومٍ عامٍّ مشتركٍ بين الأفراد، وينقسم إلى المتواطئ والمشكّك‏.‏

أ - المتواطئ‏:‏ وهو الكلّيّ الّذي تساوى المعنى في أفراده، كالإنسان، فإنّه متساوي المعنى في أفراده من زيدٍ وعمرٍو وغيرهما‏.‏ وسمّي متواطئاً من التّواطؤ ‏(‏التّوافق‏)‏ لتوافق أفراد معناه فيه‏.‏

ب - المشكّك‏:‏ وهو الكلّيّ الّذي تفاوت معناه في أفراده، كالبياض، فإنّ معناه في الثّلج أشدّ منه في العاج‏.‏

الثّاني‏:‏ المشترك اللّفظيّ‏.‏ وهو اللّفظ الموضوع لمعنيين معاً على سبيل البدل‏.‏ أو هو أن يتّحد اللّفظ ويتعدّد المعنى على سبيل الحقيقة فيهما، كالقرء، فإنّه حقيقةٌ في الحيض والطّهر‏.‏

عموم المشترك

4 - اختلفوا في عموم المشترك، وهو أن يراد باللّفظ المشترك في استعمالٍ واحدٍ جميع معانيه، بأن تتعلّق النّسبة بكلّ واحدٍ منها، بأن يقال‏:‏ رأيت العين ويراد بها الباصرة والجارية والذّهب وغيرها من معانيها، ورأيت الجون، ويراد به الأبيض والأسود، وأقرأت هندٌ، ويراد بها حاضت وطهرت‏.‏

فذهب الإمام أبو حنيفة إلى منع عموم المشترك، وعليه الكرخيّ وفخر الدّين الرّازيّ والبصريّ والجبّائيّ وأبو هاشمٍ من المعتزلة‏.‏ وذهب مالكٌ والشّافعيّ والقاضي أبو بكرٍ الباقلاّنيّ المالكيّ والقاضي عبد الجبّار المعتزليّ إلى جواز عموم المشترك‏.‏

مواطن الاشتراك

5 - يرد الاشتراك كثيراً في الفقه فيما نجمل بعض أحكامه مع الإحالة إلى موطنها في كتب الفقه‏.‏

أ - الشّركة‏:‏ وهي نوعان جبريّةٌ واختياريّةٌ‏.‏

- 1 - الجبريّة‏:‏ وهي بأن يختلط مالان لرجلين اختلاطاً لا يمكن التّمييز بينهما، أو يرثا مالاً‏.‏

- 2 - الاختياريّة‏:‏ بأن يشتريا عيناً، أو يتّهبا، أو يوصى لهما فيقبلان، أو يستوليا على مالٍ، أو يخلطا مالهما‏.‏ وفي جميع ذلك كلّ واحدٍ منهما أجنبيٌّ في نصيب الآخر، لا يتصرّف فيه إلاّ بإذنه‏.‏ والشّركة في العقود نوعان أيضاً‏:‏ فهي إمّا شركةٌ في المال، أو شركةٌ في الأعمال‏.‏ فالشّركة في الأموال أنواعٌ‏:‏ مفاوضةٌ وعنانٌ ووجوهٌ، وشركةٌ في العروض‏.‏ والشّركة في الأعمال نوعان‏:‏ جائزةٌ، وهي شركة الصّنائع، وفاسدةٌ وهي الشّركة في المباحات‏.‏ وهناك اختلافٌ بين الفقهاء في مشروعيّة بعض الشّركات‏.‏

وفي تفصيل أنواع الشّركات راجع مصطلح ‏(‏شركةٌ‏)‏‏.‏

ب - الاشتراك في الجناية‏:‏

بأن يشترك اثنان فصاعداً في قتلٍ عمدٍ أو شبه عمدٍ أو خطأٍ أو قطع عضوٍ أو جرحٍ، فاختلف في الانتقال إلى الدّية، أو قتل الجماعة بالواحد على تفصيلٍ يرجع إليه في مصطلح ‏(‏جناياتٌ، قصاصٌ‏)‏‏.‏

ج- الاشتراك في الإرث‏:‏

وهو اشتراكٌ جبريٌّ كما تقدّم‏.‏ وفي كيفيّة توزيع الأنصبة وإعطاء كلّ ذي حقٍّ حقّه انظر مصطلح ‏(‏إرثٌ‏)‏‏.‏

د - الطّريق المشترك‏:‏

وهو أن تشترك عدّة دورٍ في طريقٍ واحدٍ‏.‏ وهذا الطّريق إمّا أن يكون مفتوحاً وهو الشّارع، أو يكون مسدوداً‏.‏ وفي البناء الزّائد على البيت إلى الدّرب تفصيلٌ في الجواز والحرمة‏.‏ انظر مصطلح ‏(‏طريقٌ‏)‏‏.‏

هـ - زوال الاشتراك‏:‏

يزول الاشتراك بالقسمة بين الشّركاء بأنفسهم بالتّراضي، لأنّ الحقّ لهم، ومن نصّبوه للقسمة وكيلٌ لهم‏.‏ انظر مصطلح ‏(‏قسمةٌ‏)‏‏.‏ وكما تقسم الأعيان المشتركة تقسم المنافع المشتركة أيضاً مهايأةً، أي مناوبةً في الزّمن‏.‏ وينظر مصطلح‏:‏ ‏(‏قسمةٌ‏)‏ ‏(‏ومهايأةٌ‏)‏‏.‏

اشتغال الذّمّة

التعريف

1 - الاشتغال في اللّغة‏:‏ التّلهّي بشيءٍ عن شيءٍ، وهو ضدّ الفراغ، والذّمّة في اللّغة‏:‏ العهد والضّمان والأمان‏.‏ ومنه قوله عليه الصلاة والسلام‏:‏ «وذمّة المسلمين واحدةٌ يسعى بها أدناهم، فمن أخفر مسلماً فعليه لعنة اللّه والملائكة والنّاس أجمعين»‏.‏ ولا يخرج استعمال الفقهاء للاشتغال عن المعنى اللّغويّ‏.‏

أمّا الذّمّة فهي عند بعضهم‏:‏ وصفٌ يصير الشّخص به أهلاً للإيجاب له وعليه، وهو ما يعبّر عنه الفقهاء والأصوليّون بأهليّة الوجوب‏.‏ وبعضهم عرّفها بأنّها‏:‏ نفسٌ لها عهدٌ، فإنّ الإنسان يولد وله ذمّةٌ صالحةٌ للوجوب له وعليه‏.‏ فهي محلّ الوجوب لها وعليها‏.‏

ولعلّ تسمية النّفس بالذّمّة من قبيل تسمية المحلّ ‏(‏أي النّفس‏)‏ بالحال ‏(‏أي الذّمّة‏)‏‏.‏ فمعنى اشتغال الذّمّة بالشّيء عند الفقهاء هو وجوب الشّيء لها أو عليها، ومقابله فراغ الذّمّة وبراءتها، كما يقولون‏:‏ إنّ الحوالة لا تتحقّق إلاّ بفراغ ذمّة الأصيل، والكفالة لا تتحقّق مع براءة ذمّته‏.‏

الألفاظ ذات الصّلة

أ - براءة الذّمّة‏:‏

2 - هي فراغ الذّمّة وضدّ الاشتغال، وهي أصلٌ من الأصول المسلّمة الفقهيّة‏.‏ يحال عليه ما لم يثبت خلافه، والقاعدة الكلّيّة تقول‏:‏ الأصل براءة الذّمّة ‏.‏ ولذا لم يقبل شغلها إلاّ بدليلٍ، وموضع تفصيله مصطلح ‏(‏براءة الذّمّة‏)‏‏.‏

ب - تفريغ الذّمّة‏:‏

3 - ومعناه جعل الذّمّة فارغةً، وهو يحصل بالأداء مطلقاً، أو بالإبراء في حقوق العباد الّتي تقبل الإبراء، كما يحصل بالموت في حقوق اللّه تعالى على خلافٍ وتفصيلٍ يذكر في موضعه‏.‏ ويحصل أيضاً بالكفالة بعد الموت فيما يتعلّق بحقوق العباد‏.‏ وعبّر الأصوليّون عن وجوب تفريغ الذّمّة بوجوب الأداء، كما يقول صاحب التّوضيح‏:‏ إنّ وجوب الأداء هو لزوم تفريغ الذّمّة عمّا تعلّق بها‏.‏

صفتها‏:‏ الحكم الإجمالي

4 - الغالب استعمال هذا المصطلح في الدّيون من حقوق العباد الماليّة، ولهذا يعرّف الفقهاء الدّين بأنّه ما ثبت في الذّمّة، كمقدارٍ من الدّراهم في ذمّة رجلٍ، ومقدارٍ منها ليس بحاضرٍ‏.‏ وفي هذه الحالة يلزم تفريغها بالأداء أو الإبراء‏.‏ وتظلّ الذّمّة مشغولةً وإن مات، ولذا يوفّى الدّين من مال المدين المتوفّى إذا ترك مالاً‏.‏ وموضع تفصيله مصطلح ‏(‏دينٌ‏)‏‏.‏ والحقّ أنّ الذّمّة كما تشتغل بحقوق النّاس الماليّة، تشغلها الأعمال المستحقّة، كالعمل في ذمّة الأجير في إجارة العمل، وتشغلها أيضاً الواجبات الدّينيّة من صلاةٍ وصيامٍ ونذورٍ، لأنّ الواجب في الذّمّة قد يكون مالاً، وقد يكون عملاً من الأعمال، كأداء صلاةٍ فائتةٍ، وإحضار شخصٍ أمام القضاء ونحو ذلك، وحين اشتغال الذّمّة بشيءٍ من هذه الأمور يجب تفريغها، إمّا بالأداء، وإمّا بالإبراء إذا كانت حقّاً للعباد‏.‏

الوجوب في الذّمّة، وتفريغها

5 - عبّر الفقهاء عن اشتغال الذّمّة بالوجوب، كما يقولون‏:‏ إنّ الوجوب هو اشتغال ذمّة المكلّف بالشّيء، ووجوب الأداء هو لزوم تفريغ الذّمّة عمّا تعلّق بها‏.‏

والأصل أنّ الإيجاب هو سبب اشتغال الذّمّة، لأنّ اشتغال الذّمّة يحصل بالوجوب عليها‏.‏ يقول صاحب التّوضيح فيما يتعلّق بالأداء والقضاء‏:‏ إنّ الشّرع شغل الذّمّة بالواجب ثمّ أمر بتفريغها ويقول الغزاليّ في مستصفاه‏:‏ اشتغلت الذّمّة بالأداء، وبقيت بعد انقضاء الوقت، فأمر بتفريغها بإتيان المثل، فالوجوب الّذي ثبت في الذّمّة واحدٌ‏.‏

مواطن البحث

6 - يتكلّم الفقهاء عن اشتغال الذّمّة في الكلام عن القواعد الفقهيّة، وفي عقد الكفالة، والحوالة، وفي بحث الدّين‏.‏ والقرض‏.‏

والأصوليّون يتكلّمون عنه في بحوث الأهليّة، والأداء، والقضاء، والمأمور به، وفي بحث القدرة كشرطٍ للتّكليف‏.‏ وللتّفصيل يرجع إلى الملحق الأصوليّ‏.‏

اشتمال الصّمّاء

التعريف

1 - في اللّغة‏:‏ اشتمل بالثّوب إذا أداره على جسده كلّه حتّى لا تخرج منه يده، واشتمل عليه الأمر‏:‏ أحاط به، والشّملة الصّمّاء‏:‏ الّتي ليس تحتها قميصٌ ولا سراويل‏.‏ قال أبو عبيدٍ‏:‏ اشتمال الصّمّاء هو أن يشتمل بالثّوب حتّى يجلّل به جسده، ولا يرفع منه جانباً، فيكون فيه فرجةٌ تخرج منها يده، وهو التّلفّع‏.‏

أمّا في الاصطلاح‏:‏ فيرى جمهور الفقهاء أنّه لا يخرج عن المعنى اللّغويّ‏.‏ ويرى بعضهم أنّ اشتمال الصّمّاء هو ما يطلق عليه‏:‏ الاضطباع، وهو أن يضع طرفي ثوبه على عاتقه الأيسر‏.‏ كما أنّ الكثرة من الفقهاء يرون أنّ اشتمال الصّمّاء لا يكون في حالة وجود إزارٍ‏.‏ ويرى بعضهم أنّه لا مانع من أن يكون متّزراً أو غير متّزرٍ‏.‏

ومنشأ الخلاف في هذا مبنيٌّ على الثّوب‏.‏

صفتها‏:‏ الحكم الإجمالي

2 - مع اختلافهم في التعريف على ما تقدّم فقد اتّفقوا على أنّ اشتمال الصّمّاء - إن انكشفت معه العورة - كان حراماً ومفسداً للصّلاة‏.‏ وأمّا إذا لم يؤدّ إلى ذلك فقد اتّفقوا أيضاً على الكراهة، ولكن حملها بعضهم على كراهة التّنزيه، وبعضهم على أنّها كراهةٌ تحريميّةٌ‏.‏ والأصل في ذلك ما رواه البخاريّ عن أبي هريرة وأبي سعيدٍ رضي الله عنهما عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ «أنّه نهى عن لبستين‏:‏ اشتمال الصّمّاء، وأن يحتبي الرّجل بثوبٍ ليس بين فرجه وبين السّماء شيءٌ»‏.‏

مواطن البحث

3 - ينظر تفصيل الموضوع في‏:‏ ‏(‏لباسٌ، وصلاةٌ، وعورةٌ، ومكروهات الصّلاة‏)‏‏.‏

اشتهاءٌ

التعريف

1 - الاشتهاء في اللّغة‏:‏ حبّ الشّيء واشتياقه، والرّغبة فيه ونزوع النّفس إليه، سواءٌ أكان ذلك خاصّاً بالنّساء أم بغير ذلك‏.‏ والشّهوة كذلك، وقد يقال للقوّة الّتي تشتهي الشّيء شهوةً‏.‏ ولا يخرج استعمال الفقهاء له عن المعنى اللّغويّ، وأغلب ما يعنون باستعمالهم للفظي اشتهاءٍ وشهوةٍ إنّما هو بالنّسبة لرغبة الرّجل في المرأة ورغبتها فيه، وهو ما يجده أحدهما أو كلاهما من لذّةٍ نفسيّةٍ، بتحريك القلب وميله، أو لذّةٍ حسّيّةٍ بتحرّك أعضاء التّناسل، وذلك عند النّظر أو المسّ، أو المباشرة، وما يترتّب على ذلك من أحكامٍ‏.‏

الألفاظ ذات الصّلة

2 - الشّبق‏:‏ وهو هياج شهوة النّكاح، فالشّبق أخصّ من الاشتهاء‏.‏

صفتها‏:‏ الحكم الإجمالي

3 - الاشتهاء الطّبيعيّ الّذي لا إرادة في إيجاده لا يتعلّق به حكمٌ، لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لا يكلّف اللّه نفساً إلاّ وسعها‏}‏ ولقوله عليه الصلاة والسلام‏:‏ «اللّهمّ هذا قسمي فيما أملك فلا تؤاخذني فيما لا أملك» ولكنّ الحكم يتعلّق بالاشتهاء الإراديّ‏.‏

وما تشتهيه النّفس‏:‏ إمّا مباحٌ أو محرّمٌ‏.‏

أمّا المباح‏:‏ فقد حكى الماورديّ في إعطاء النّفس حظّها من الشّهوات المباحة مذاهب‏.‏ أحدها‏:‏ منعها وقهرها حتّى لا تطغى‏.‏

الثّاني‏:‏ إعطاؤها تخيّلاً على نشاطها‏.‏

الثّالث، وهو الأشبه‏:‏ التّوسّط‏.‏ أمّا اشتهاء المحرّم فحرامٌ، وأكثر ما يذكره الفقهاء في ذلك هو اشتهاء الرّجل المرأة الأجنبيّة، أو العكس، ويرتّبون على ذلك أحكاماً منها‏:‏

أ - النّظر‏:‏

4 - القاعدة العامّة في ذلك أنّ النّظر بشهوةٍ حرامٌ قطعاً لكلّ منظورٍ إليه من أجنبيّةٍ أو محرّمٍ، لا زوجته وأمته، لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ «من نظر إلى محاسن امرأةٍ أجنبيّةٍ عن شهوة صبّ في عينيه الآنك يوم القيامة» وخوف الشّهوة أو الشّكّ في الاشتهاء يحرم معه النّظر أيضاً، والمرأة كالرّجل في ذلك يحرم نظرها إلى الرّجل إذا كان بشهوةٍ، أو خافت، أو شكّت في الاشتهاء‏.‏ وهذا بالنّسبة لمن يشتهى من رجلٍ أو امرأةٍ‏.‏ أمّا الصّغيرة الّتي لا تشتهى، ومثلها العجوز فإنّه يحلّ النّظر والمسّ، لانعدام خوف الفتنة، أمّا عند خوف الفتنة فلا يجوز أيضاً‏.‏ ويستثنى من حرمة النّظر ما إذا كانت هناك ضرورةٌ كالعلاج، أو الشّهادة، أو القضاء، أو الخطبة للنّكاح، فإنّه يباح النّظر حينئذٍ ولو مع الاشتهاء‏.‏ وهذا باتّفاق الفقهاء مع تفصيلاتٍ تنظر في مصطلحي ‏(‏النّظر، واللّمس‏)‏ وغيرهما‏.‏

ب - حرمة المصاهرة‏:‏

5 - يرى الحنفيّة أنّ من مسّته امرأةٌ بشهوةٍ حرمت عليه أمّها وبنتها، وكذلك من مسّ امرأةً بشهوةٍ أو نظر إلى فرجها الدّاخل،‏.‏ لأنّ المسّ والنّظر سببٌ داعٍ للوطء، فيقام مقامه في موضع الاحتياط ‏(‏والمسّ بشهوةٍ أن تنتشر الآلة أو تزداد انتشاراً‏)‏ وهو رأي المالكيّة أيضاً، خلافاً للشّافعيّة وللحنابلة، وفي الموضع تفصيلاتٌ كثيرةٌ تنظر في ‏(‏حرمةٌ - نكاحٌ - زنًى‏)‏‏.‏

مواطن البحث

6 - الاشتهاء أو الشّهوة تتعلّق به أحكامٌ عدّةٌ كنقض الوضوء، وبطلان الصّلاة، وإيجاب الغسل، وحدّ الزّنى إن أدّى إلى مباشرةٍ في الفرج، وتنظر في ‏(‏وضوءٌ، وطهارةٌ، وصلاةٌ، وزنى‏)‏‏.‏

نهاية الجزء الرابع/ الموسوعة الفقهية